الحركة الوطنية في  ببني يزناسن والعوامل المساعدة على ظهورها

 تتمة...>>>  Suite ...>>>

تقديم :

لا يتسنى للمقاومة والثورة ان تبرز للميدان إذا لم تكن هناك قاعدة صلبة قد وعت موقعها في الساحة وفهمت حقيقة وجودها ، إذ الثورة رهينة بالإحساس بالظلم والشعور بفقدان مكتسبات قد آلت للآخرين .

كانت فرنسا منذ إعلانها توقيع الحماية قد عجلت بعملية استيطانية على حساب الأهالي الذين جردت معظمهم من الأراضي وأحلت محلهم جالية فرنسية ما فتئ عددها يتزايد باستمرار وشجعت قدومهم بسلسلة من التسهيلات والإغراءات وقامت كذلك بعملية تجهيل للمغاربة بفتحها للمدارس الفرنسية في مقابل عرقلة التعليم الأصيل وتشجيعها للزوايا حتى تنتشر مجموعة من الأضاليل وتبعد الناس عن روح الدين ، غير أن ذلك لم يمنع المغاربة من المطالبة بالإصلاحات اولا والاستقلال ثانيا بسلسلة من النضالات والمواجهات اوصلتهم في النهاية الى الاستقلال .

سياسة نزع الأراضي من أصحابها :

منذ مخططاتها الأولى لاحتلال المغرب كانت الآلة الاستعمارية الفرنسية تسعى للسيطرة على خيراته ، ولما تميزت به الأرض المغربية من خيرات دأبت إدارة الحماية على انتزاع آلاف الهكتارات من أصحابها وتخويلها للمعمرين ، وبدأت هذه السيطرة منذ غشت 1914 حيث صدر مرسوم بنزع الملكية وصدرت مراسيم أخرى في 1927 لنفس الغرض وبلغ هذا الاستيلاء ذروته في مطلع الثلاثينات مع استعمال المستعمر لعدد من الوسائل قصد إرغام المالك على التخلي عن أرضه .

وفي بني يزناسن بمجرد أن أحكمت سلطات فرنسا قبضتها على هذه المنطقة في 1908 ، وبعد السجن والتشريد لأهله ، اتجهت لانتزاع الأراضي من أهلها بعد أن عجزوا عن تسديد الغرامات التي فرضتها عليهم بدعوى تسديد خسائر الحرب التي تكبدتها أثناء مواجهاتهم لها ، واتجه الفرنسيون في البداية الى الاستيلاء على الأراضي المحيطية بابركان لأن باقي الأراضي كانت بورا ولم يرغب الفرنسيون اولا في امتلاكها وفضلوا أراضي تريفة لأن الماء فيها قريب من سطح الأرض فضلا عن جودة تربتها .

على الرغم مما أبداه الملاكون من تمسك بأراضيهم فقد أرغموا بمختلف الوسائل على التنازل عن أراضيهم  ، خاصة الخصبة منها لتشكل مجموعات كبرى من الضيعات في ملك المعمرين وصل عددها في منطقة ابركان وحدها 135 ضيعة في سنة 1948 ، وانحصرت الأراضي التي بقيت في ملكية الأهالي في الجبال والمناطق الصعبة ، وهناك قسم من السكان تخلى عن أرضه بواسطة الإغراءات فقد كان الفرنسيون ينشرون بأن المعمرين لن تطول ٌإقامتهم بالمغرب وبالتالي ينبغي للفلاحين استغلال هذه الفرصة للبيع بأثمان مرتفعة وسوف تعود لهم أراضيهم بمجرد مغادرة الفرنسيين للمغرب ، ولم تكد تصل سنة 1934 حتى أضحى بنو يزناسن يعيشون أزمة خانقة وهي وليدة سنوات مضت قل فيه المطر وكثرت تعسفات المستعمر حتى أصبح الناس مهددون بالضياع والتشرد .

ونتيجة لهذه الوضعية شدت عدد من العائلات رحالها الى الجزائر حيث مارست أعمالا متنوعة عند المعمرين في البيوتات والمزارع وغيرها ، ولم تكن حالتهم أحسن حالا مما كانت عليه في المغرب كما هاجرت بعض العائلات الى مناطق أخرى من المغرب ومارس أبناؤها عددا من المهن .

وقد استغل اليزناسيون الزيارة الملكية للمنطقة في سنة 1934 وقدمت له عشرات الرسائل تشتكي سوء معاملة الفرنسيين للأهالي واعتداءاتهم المتكررة ، فأمر السلطان  بالاحتفاظ بها الى حين عودته لعاصمة ملكه قصد النظر فيها ، فلم يلبث سوى قليلا حتى ظهرت نتيجة الرسائل وعادت مجموعة من الأراضي لأصحابها ، إلا أنه رغم ذلك فقد ظل اليزناسيون عرضة للمضايقات والاستفزازات التي تجعلهم يفضلون التخلي عن أرضهم بدل العيش في رعب .

سياسة التجهيل

قامت فرنسا بتاسيس مجموعة من المدارس العصرية موهمة الناس بسعيها لنشر الثقافة والعلم الا انها كانت في واقع الأمر تطمح لتكوين عدد من المساندين لسياستها وتخريج طائفة من القياد والأعوان لتتمكن من تمرير سياستها بواسطة عناصر محلية ، ومما يدل على ذلك وقوفها في وجه تاسيس المدارس القرآنية وإغلاق بعضها ، ووقفت الإدارة الفرنسية خاصة ضد القرويين لما له من توجيه إسلامي عميق وواسع الآفاق ، واول من لمس هذه الأهمية هو ليوطي الذي رفع تقريرا مفصلا لدولته جاء فيه بان لا خوف على الاستعمار  سوى من القرويين ، لذا فقد سلطات الحماية بالمنطقة اليزناسنية تسخر الدعاية ذدا على القرويين والعلماء فيها وتنشر بين الناس كون أهل الوطنية السياسية يتنكرون لأولياء الله لتثبطهم عن إرسال أبنائهم للقرويين .

وطبيعي فإن أهل المنطقة الذين كانوا متأثرين بما ينشره دعاة الطرقية والزوايا المناوئة للحركة الوطنية من شعوذة وخرافات شوهت أصول الدين قد سخطوا على الوطنيين وعلى العلوم التي تلقن عن طريقهم .

لكن رغم الحصار الاقتصادي والثقافي الذي ضربه الفرنسيون على المنطقة فلم يكن لهم ان يجمدوا الوعي الوطني ، فكان ان تظافرت عدد من العوامل كان لها وقع في إيقاظ النفوس وتحريك الضمائر للثورة والمواجهة .

عوامل انبعاث الوعي الوطني .

إصدار الظهير البربري

لقد تم إصدار الظهير البربري 1930 الذي انكبت على إعداده لجنة من رجال القانون الفرنسيين لإحداث تغييرات في نظام القضاء الخاص بالبربر بمعزل عن المخزن ، فكان ذلك تعبيرا عمليا عن سياسة فرنسا للقضاء على مقومات الشعب المغربي وتمزيق وحدته تمهيدا لإدماجه . وقد عبر عن ذلك أحد أساتذة المدرسة الاستعمارية الفرنسية وهو جودفروا دومنين حيث كتب : " من الخطر ان نترك كتلة ملتحمة من المغاربة لها لغة واحدة وأنظمة واحدة ، لابد ان نستعمل في حقها الشعار القديم فرق تسد " وأثار هذا الظهير موجة من الاحتجاج أظهرت حدة الشعور الوطني وعمت أغلب مدن المغرب وكان الساخطون الذين اجتمعوا في المساجد يدعون الله الا يفرق بين المغاربة من ذوي الأصل العربي وإخوانهم من ذوي الأصل البربري .

ولم يقف بنو يزناسن مكتفوا الأيدي أمام الإجراء التعسفي الذي يجعل ¾ من ساكنة البلاد خاضعا للقوانين العرفية والفرنسية ويجردها من اللغة العربية . فقد اهتزت الأرجاء وأخذ الناس يقرئون اللطيف تحسرا على ما حل باخوانهم بالأطلس ويتوقعون أن يشملهم خصوصا وأن معظم بني يزناسن يتحدثون بالأمازيغية ، وكان قد شاع في اوساطهم ان المنطقة سيشملها الظهير فتقفل المحاكم الشرعية ويطرد القضاة وتقفل المساجد والمسائد ، ورغم ان بني يزناسن كانوا يسخطون على القضاة والمحاكم الشرعية فقد تناسوا ذلك وهددوا بالقيام برد فعل قوي إذا أقدمت فرنسا على تطبيق الظهير بمنطقتهم فلم يكن امام إدارة المراقبة إلا أن تستدعي القواد وكبار رجال المنطقة لتخبرهم بان الظهير كان يطلب من بعض القبائل التي رغبت بان تحاكم باعرافها بسبب شطط قضاة المحاكم الشرعية .

وإضافة الى الاستياء الذي عبر عنه أهل المنطقة يروي الورطاسي بان أحد أبناء بني يزناسن وهو محمد بن بومدين اليعقوبي قد أرسل برقية احتجاج حوكم بسببها لمدة شهر .

وهكذا فقد شكل هذا الظهير هزة قوية للسكان جعلتهم يعون خطورة الوضع ويشعرون بالنوايا الحقيقية للإدارة الفرنسية التي سعت للتفريق بين عناصر الشعب المغربي وجعلتهم يقتنعون بضرورة التكتل والعمل لجلاء المستعمر .

الزيارة الملكية لبني يزناسن

في خريف 1934 قرر السلطان محمد الخامس القيام برحلة لشرق المغرب لربط الصلة بينه وبين كافة رعاياه ، وما إن علم اليزناسيون بهذا الخبر حتى بدات الايتعدادات وتهيء الأجواء في كل المناطق التي سيمر بها الموكب الملكي ونظرا للاستعدادات الكبيرة والحماس الذي عبر عنه كافة اليزناسيون شعر المراقب الذي كان على راس ابركان وهو اموانس بخطورة الموقف لذا طلب تمكينه من الإجازة السنوية خوفا من حدوث ما لا تحمد عقباه . 

وفي اليوم الموعود تجمعت السيول البشرية القادمة من كل النواحي وقصدت ابركان ، ورغم ان السلطات الفرنسة كانت قد حذرت السلطان من هذه الزيارة ونشرت ان بني يزناسن يكرهون السلاطين ونصحته بعدم القيام بهذه الزيارة لأنه قد تم تشكيل عصابات لقتله ، فإن السلطان لم يكترث بها لتاكده من حب الشعب له فحل بالمنطقة حلول يمن وبركة وفي كل قرية حل بها كانت الجماهير تتلقاه بالترحاب والهتاف مما اكد له كذب ادعاءات فرنسا وكما سبقت الاشارة فقد استغلت الجماهير هذه الزيارة لتقدم له عددا من الرسائل الاحتجاجية  على سياسة فرنسا وامر بالاحتفاظ بها قصد الاطلاع عليها ، وفعلا لم يلبث سوى قليلا حتى ظهرت مراسيم أسقطت عددا من الاجراءات التي كانت قد اتخذتها السلطات الفرنسية .

وكان لهذه الزيارة والتي ازدوجت بتقديم المطالب العامة التي وصل صداها للمنطقة وكذا رجوع جملة من الأراضي لأصحابها ان ايقظت الشعور الوطني واصبح الناس على استعداد لتقبل الأفكار الوطنية خصوصا وانهم قد شعروا بوجود سلطة شرعية مغتصبة قد آن الأوان للمطالبة باسترجاعها .

الاحتفال بعيد العرش

كانت الادارة الفرنسية تعمل على نشر عدد من الاضاليل والافكار قصد تضليل الراي العام المغربي هادفة من وراء ذلك تجميد الوعي الوطني ، وقوقعة فكر الناس في دائرة محدودة ، واحتواء كلفة الشعب المغربي ، فاخذت تنشر بان فرنسا هي صاحبة القرار في المغرب وما السلطان سوى مامور لذا ينبغي على المغاربة الانصياع لأوامرها . وحتى في حالة صدور امر ملكي فقد كان اسميا فقط إذ كانت فرنسا بمختلف وسائل الضغط ترغم السلطان على التوقيع على ما تراه متناسقا مع سياستها .

ورغم ان السلطان كان تحت رحمة الفرنسيين فقد كان دوما يمثل رمزا للسلطة المغربية ، وهكذا فقد كانت وفاة السلطان مولاي يوسف بداية استياء عميق في كافة الأوساط رغم الياس من سياسته ، فقد عم الشعور بالألم والحسرة في جميع الأوساط اليزناسية غير ان صعود محمد الخامس لاعتلاء عرش المغرب وخطابه الأول لشعبه في يوم 18 نوفمبر من سنة 1927 خفف من وقع الصدمة ، خاصة حين فكرت كتلة العمل الوطني في القيام برد فعل ضد التصرفات لم تزد الناس إلا الحاحا على الاستمرار فلم يكن بوسع المراقبة إلا تذعن للأمر الواقع وبدات الاحتفالات خاصة في التجمعات الكبرى كابركان وأحفير وتافوغالت وكانت تعلق الرايات والأناشيد الوطنية ، فشعر الناس بوجود شيء قوي أرغم الإدارة الفرنسية على ذلك فساهم كل ذلك في رفع وعي الناس وشعورهم بوجود التحام قوي بين العرش والشعب.

الروافد الثقافية التي فجرت الوعي الوطني

عرف الأهالي منذ زمن بدأبهم على إرسال أبناءهم الى الكتاتيب القرآنية والتي كانت ملحقة بالمساجد حيث كانت تلقى بها بعض المبادئ العامة في اللغة والنحو وخاصة من قبل الأئمة الى جانب تحفيظ القآن الذي مثل العلم الأولي الذي تلقاه أغلب الأطفال ممن سمحت لهم الفرصة بالالتحاق بهذه الكتاتيب قبل إرسالهم الى معاهد أخرى وطنية وحتى الى خارج المغرب .

المراكز المحلية :

 إذا كانت قبيلة بني يزناسن قد اشتهرت بأبطالها وأمجادها في التاريخ و بمواقفها الوطنية خاصة حين اجتاح الفرنسيون التراب المغرب إذا انضوت هذه القبيلة بكل أبنائها تحت قيادة المختار البوتشيشي لمواجهة الاعتداد الفرنسي فقد اشتهر أبناؤها كذلك بحفظ كتاب الله . فقد كانت تنتشر في ربوع بني يزناسن مجموعة من المساجد العلمية. ففي بني وريمش وجد مسجد كان يدرس فيه الفقيه محمد بن الطاهر الداودي ، ووجد في بني منقوش مسجد بني وكلان كان يدرس فيه عبد القادر بن الماحي البكاوي ، و مسجد سيدي موسى بالقرب من الكرارجة وكذا مسجد الأبصار و في بني عتيق وجدت مدرسة تازغين ومسجد تاقربوصت .

وحين انتقل محمد بن العالم الخالدي اليزناسني إلى قضاء ابركان قادما إليها من عيون سيدي ملوك اقترح فكرة بناء مسجد لإقامة فريضة الجمعة بواسطة تبرعات الأهالي ، وفعلا بدأ الناس يتبرعون لفائدة بناء المسجد وقد شيدت إلى جانبه مجموعة بيوت. وفي سنة 1932 تم استدعاء العربي السنوسي حيث فتح معهد بأبركان وصار يلقي به بعض الدروس التوجيهية .

لكن هذه الكتاتيب القرآنية لم تكن كافية أمام أولئك الذين تعطشوا للعلم لذا كان لابد من وجود بدائل عنها والبحث عن الأفضل ، فتم الاتجاه إلى مراكز أخرى كانت أفضل حالا من تلك التي وجدت بالمنطقة.

 معهد وجدة : 

تعتبر مدينة وجدة أكبر مدينة في ذلك التاريخ توجد على مقربة من كل بطون بني يزناسن كما قد سكنها اليزناسنيون من كل النواحي فضلا عن الذين كانوا يقصدونها للتجارة أو الدرس حيث كانت مدينة وجدة تتوفر على معهد لتدريس الطلبة . ولم تكن فرصة أنسب من التوجه لهذا المعهد فقصده بنو يزناسن لإتمام تكوينهم و الحصول على المزيد.

ورغم قلة غرف الإيواء حيث لم يكن المعهد يضم سوى 40 طالبا يزنا سنيا ممن تمتعوا بالسكن الداخلي في سكن الباقي في المساجد ، وممن تمتع برغد العيش وسمحت له ظروفه المادية فضل الإقامة الخارجية فقد تقاطر عليه الطلبة . ولم تكن المواد الدراسية تتجاوز بعض كتب النحو و الصرف و الفرائض من الثامنة صباحا حتى الثانية عشر. وفي المساء يلقى درسين أو ثلاثة وكانت الدراسة بطريقة الإملاء ثم التلاوة وقلما تخللها المناقشة و الأسئلة إلا نادرا.

وحين لم يكن هذا المعهد يلبي حاجة  الطلبة في كسب مزيد من المعرفة أخذوا يشدون الرحال إلى القرويين وكذا لبعض المدارس الأخرى المتواجدة بفاس.

 بنو يزناسن : 

لا أحد يشك في أن القرويين أم المدارس في المغرب فمنذ تأسيسها في القرن الثاني الهجري على يد فاطمة الفهرية لم تتوقف هذه المعلمة الثقافية  عن العطاء حتى عدت شواهد القرويين مفخرة لكل حامليها ، وللصيت الذي تمتعت به والذي وصلت أصداؤه لمنطقة بني يزناسن كان لابد لأهل المنطقة من التفكير في بعث أبنائهم للقرويين ، فمنذ سنة 1933 أخذ الطلبة اليزناسنيون يتضاعفون خصوصا بعد الزيارة التي قام بها علال الفاسي  لأبركان حيث طلب من الحسن شاطر إيفاد مجموعات من اليزناسنيين للقرويين حتى يلقنوا مبادئ  الوطنية ، و يقومون بدورهم ببثها بين ذويهم حين عودتهم . فساعدتهم تلك اٌٌلإقامة بفاس على الاطلاع على الأحداث الوطنية و النشاط الذي كان يقوم به رجال الحركة الوطنية عن كتب وحين عودتهم كانوا يحكون لإخوانهم النهضة العلمية في فاس و أساليب الحضارة. وكذا نشاط الحركة الوطنية –3-. فكان لهذه الروايات مساهمة في دفع شباب بني يزناسن للالتحاق بالقرويين. كما بذرت فيهم الأفكار التحررية و الحس الوطني.

 مازونة الجزائر : 

تقع مازونة الجزائر بالغرب الجزائري واشتهرت بعلمها وعلمائها وبطلبتها الذين كانوا يقصدونها من كل النواحي بالجزائر وقصدها المغاربة أيضا خاصة من أبناء بني يزناسن لقربها من المنطقة و للروابط الثقافية التي تجمع بين الشعبين. وقد نهل من المعين الثقافي لهذه المدرسة  عدد من اليزناسنيين و بقي الإقبال عليها حتى حين تم احتلال المنطقة ولجأت سلطات الحماية إلى فرض الحواجز بين البلدين لكن لوحظ تناقص في عدد الوافدين.

ففي سنوات الثلاثينيات تراجع ذلك الإقبال عليها بسبب ما ضرب عليها من حصار ثقافي ولم تعد تؤدي وظيفتها كما في السابق فكان لزاما على الأهالي أن يقللوا من إرسال أولادهم لمازونة. ورغم ذلك فقد كان الطلبة اليزناسنيون الذين انتقلوا للجزائر ينقلون الأوضاع العامة بالجزائر خاصة أصداء النهضة العلمية و السلفية التي قادها عبد الحميد بن باديس ، و الحركة السياسية التي تزعمها مصالي الحاج. فكان طبيعيا أن يتأثر الناس بمبادئ هاتين الحركتين و يأخذوا في مناقشتها .  ومن ثم ساهم ذلك في انبعاث وعي ثقافي و سياسي بالمنطقة.

 5- الصحف و المجلات :

لا أحد ينكر ما للعمل الإعلامي من أثر في توجيه الناس و توعيتهم ، وتربيتهم التربية الوطنية التي تجعلهم ذوي ضمائر حية. و منذ الثلاثينات قام الوطنيون بإصدار مجموعة من الصحف الوطنية مثل "عمل الشعب" و مجلة "مغرب" و أخذ بعض المتعلمين من المنطقة يحصلون على أعداد منها كما أصدر الشماليون مجلة "السلام" و جريدة "الحياة" التي كانت تصل للمنطقة رغم منع الإدارة الفرنسية دخولها لمنطقة نفوذها.

وكانت تصل أيضا صحف من الجزائر حيث تم اقتناء صحف مصالي الحاج و عبد الحميد بن باديس  وبعد تشدد إدارة الحماية إزاءها كان يتم استقدامها عن طريق التهريب. و أيضا وردت صحف من مصر و لبنان كالأهرام و الكواكب و المصور ، ومن تونس كانت تصل جريدة الزهرة التي كانت تخدم القضية المغربية بنفس الروح التي كانت تخدم بها القضية التونسية . ومن الذين عرفوا بقراءة الجرائد من المنطقة : القائد محمد المنصوري ، محمد بن الطيب الورطاسي ومولاي بنسعيد وغيرهم . وساهم هؤلاء في نقل محتويات الصحف شفاهيا للناس ممن لم تسمح لهم ظروفهم الحصول عليها أو لم يكونوا يعرفون القراءة. فكان الناس يتابعون باهتمام ما يرد من أخبار و يأخذون في مناقشتها و مقارنة أوضاع البلاد الأخرى بحالهم و هكذا تضافرت عدة عوامل جعلت الناس يعون مجريات الأحداث من حولهم و لم يبق سوى وجود فعالية ناضجة تعمل على قيادتهم نحو عمل وطني جاد يوجه ضد الوجود الفرنسي خدمة للقضية المغربية. و ستشهد سنوات الثلاثينات حتى السنوات الأولى من الخمسينات التركيز على كفاح سياسي مسالم طالب بالإصلاحات أولا ثم الاستقلال ثانيا حتى تفجر الكفاح المسلح مرورا بعدد من الحوادث كلما كانت تصب في إطار حركة وطنية منظمة شملت عددا من التنظيمات وقامت بعدة أعمال كلها تعبر عن الرفض التلقائي للمغاربة لكل مس بكرامتهم . بدأت مع إصدار الظهير البربري ثم المساندة للحلفاء في الحرب العالمية الأولى و ما صاحبها من مطالبة بالاستقلال و عدد من المطالب بعدها حتى انكشاف المؤامرة المدبرة من طرف المقيم العام ضد الملك.

2-    الحركة الوطنية في بني يزناسن :   

بمجرد أن قامت الحماية الفرنسية بالمغرب نشأت حركات للمقاومة وما يميزها حتى حدود 1930 كونها لم تكن منظمة و كانت  تعبر عن الرفض التلقائي للاحتلال . فقامت معارك و مواجهات استطاع خلالها المغاربة إلحاق خسائر فادحة بالعدو خاصة في معارك كلهري  بالأطلس و أنوال بالريف. و بالمنطقة اليزناسنية بدأ كفاح هذه القبائل منذ احتلال الفرنسيين للجزائر سنة 1830 إلى أن غادر عبد القادر الجزائري التراب المغربي سنة 1847 . و في سنة 1907 بعد احتلال وجدة و الزحف على منطقة بني يزناسن قامت ثورة  بقيادة المختار البوتشيشي الذي كان مركزه في زاوية بتاغجيرت بنواحي أحفير و استمرت سنة كاملة .

وبعد أن فشلت هذه الثورات المسلحة أخذ العمل السياسي بالظهور منذ أواخر العشرينات و كانت المدن هي التي طرحت هذا البديل على يد نخبة من المثقفين سواء خريجي المدارس الفرنسية أو المدارس الأصيلة كالقرويين ، واستطاع هؤلاء أن يقوموا بالدعاية الوطنية التي وجدوا لها صدى بعيدا بين عامة الشعب. و هكذا ظهر لأول مرة في المحيط المغربي تنظيم سياسي ربط الجماهير بنضال وطني هادف و أخضعها لتنظيماته و منح للعمل الوطني بعدا وطنيا بعيدا عن الجهوية و القبلية ليصبح العمل موجها للوطن ككل.

وكان الظهير البربري بداية عملية لبلورة المعسكر الوطني و دفع بالشباب المثقف إلى تنظيم عمله في إطار تكتل سياسي هو كتلة العمل الوطني التي قدمت برنامجا إصلاحيا في 1 دجنبر 1934 ، وبرز هذا العمل في كبريات المدن كفاس و الرباط حيث القرب من الإقامة العامة و كذا وجود العناصر الفعالة التي كانت صاحبة القرار في حين ظل هذا العمل منعدما أو ضعيف الفعالية في المناطق الأخرى حيث كان يفتقر إلى مسيرين .

في بني يزناسن كانت عوامل الانبعاث الوطني تعمل عملها في إيقاظ النفوس و تحريك الناس نحو العمل الوطني ، و إذا وجد هناك من وعي حقيقة الأوضاع في البلاد و خبر بوجود تنظيم سياسي في فاس خاصة من قبل أولئك الذين كانوا يترددون عليها للدراسة أو التجارة كالحسن شاطر حيث اطلعوا مباشرة على نشاط الوطنيين و جلبوا عددا من المناشير و الجرائد للمنطقة ليطلع عليها الناس ، فقد كان الوعي لا يتجاوز دائرة الإحساس الداخلي دون التجرؤ على المواجهة المباشرة أو التصريح بالمعاداة للفرنسيين و ربما كان ذلك راجعا إلى عدم وجود قيادة يطمئن لها فتقوم بالتوجيه و الاستقطاب.

وحتى على صعيد المراكز الكبرى خاصة فاس. فحتى حدود 1936 لم يكن المشرفون هناك يفكرون في تجاوز النشاط الوطني لمشارف تازة حيث كانوا يقرون دوما عدم القيام بأي نشاط في الإقليم الشرقي. وكما صرح إبراهيم الكتاني في كثير من المناسبات فالسبب كان يرجع لكون سكان اٌلإقليم عمليون أكثر من اللازم و إذا انضموا للحركة و هي ما تزال في مهدها فربما يفرطون في العمل و يؤدي ذلك إلى القضاء على الحركة و هذه النظرية ربما فد تنبه لها الفرنسيون بدورهم إذ ظلوا طيلة وجودهم بالمغرب يديرون الإقليم في شبه استقلال عن باقي المناطق . وكانت الإقامة العامة ترسل حكاما اختصاصيين لحكمه و أشهرهم باشلو أقصى مراقب عرفه بنو يزناسن في فترة الحرب العالمية الثانية .

لكن هذا لا يعني أن النشاط الوطني قد ظل مغيبا طيلة هذه الفترة ، بل لقد ابتدأ منذ 1934 ومع زيارة علال الفاسي لأبركان حيث قام بتدشين المدرسة القرآنية و حينها من طلب الحسن شاطر و طائفة من الذين كانوا بدأوا العمل في الحقل الوطني إرسال بعثات طلابية للقرويين لتلقن مبادئ العمل الوطني فتقوم بالتوعية حين تعود لمواطنها . ومن الذين انضموا للحركة و كانوا ضمن كتلة العمل الوطني رغم عدم وجود مكتب يؤطرهم نجد الحسن شاطر ، عبد المومن بدري ، بنعيسى لفرملي ومولاي بنسعيد الحمداوي . و حين ألقي عليهم القبض لم يستطع البعض المتابعة و التضحية. فقرروا الانسحاب في حيت تابع غيرهم مسيرة الحركة الوطنية حتى النهاية .  

 1/ إنشاء المدارس القرآنية بالمنطقة :

 لقد عملت الإدارة الفرنسية منذ البداية على إنشاء عدد من المدارس وبثها في مجموعة من المدن المغربية قصد تخريج جيل متشبع بالثقافة الغربية و إبعاده عن تراثه الحضاري الإسلامي خاصة المبادئ التي كان يتلقاها في القرويين ، ووعيا منهم بخطورة هذا التكوين على العقلية المغربية سعى رجال الوطنية إلى تأسيس طائفة من المدارس الحرة تحت ستار التعليم الديني حتى لا تتعرض للإغلاق فتم تأسيس عدد منها لتعويض النقص الحاصل في تعليم المواطنين. إذ كان عدد المدارس محدودا في تلك الفترة ولا يدخلها إلا المحظوظون و لتربية الجيل الجديد على مبادئ الوطنية.

 و إذا نظرنا إلى المنطقة الشرقية نرى أن أمر إنشاء هذه المدارس قد تأخر نسبيا إذ يخبرنا الورطاسي بأن المسؤولين في فاس قد ضجوا ومنعوا حين أخبرهم إبراهيم الكتاني برغبة أهل وجدة في فتح مدرسة قرآنية بمدينتهم حيث كانوا يفضلون التدرج في العمل الوطني و إعداد دراسة للوضعية بالمنطقة قبل الإقدام على عمل ما  وحين تم فتح مدرسة قرآنية بوجدة تقرر تخصيص زيارة لأبركان قصد تدشين نواة المدرسة القرآنية أصبحت منذ 1946 مدرسة حرة تحت اسم مدرسة النهضة .

المدرسة القرآنية في أبركان نموذجا :

بدأ عمل هذه المدرسة في سنة 1934 مع زيارة علال الفاسي لأبركان حيث قام بتدشينها وساعد على فتحها كل من الحسن شاطر ، عبد القادر الشراك وعبد القادر الوجدي . وكانت هذه المدرسة عبارة عن غرفة طويلة مسقفة بالقرميد ولم تحتو أول الأمر على مقاعد و إنما على فرش فيها حصير من الحلفاء على غرار ما كان يفرش في البيوتات في تلك الفترة. ووجدت بها سبورة و مكتب متواضعين خصصا للمدير. كما كان المترددون عليها من الأطفال يستعملون الألواح التقليدية لإثبات الآيات القرآنية إضافة إلى قليل من الكنانيش لتسجيل الدروس التي لم تكن تتجاوز في أغلبها بعض المبادئ الفقهية و النحوية و أناشيد وطنية حماسية .

وكباقي المدارس الحرة التي أنشأها الوطنيون ضدا على إدارة الحماية ، لم يكن الإقبال عليها سهلا أول الأمر لأن الإدارة  الفرنسية كانت تعمل على عرقلتها فقد كانت تنظر إليها بكونها خلايا سرية سوف تستغل لأغراض سياسية وهو ما كان في واقع الأمر . لذلك فقد تجنب هذه المدرسة كل من خشي الاصطدام مع الفرنسيين. وبعد شهرين فقط من تأسيسها غادرها عبد المالك البوتشيشي الذي كان قد عين مديرا لها بأمر من أخيه عباس الذي كان في الزاوية القادرية بتاغجيرت ليلتحق بإحدى المحاكم الشرعية حيث عين في سلك العدول ويبدو أن الأمر كان بضغط من الفرنسيين على أخيه . وقد كان لهذا الحادث أثر في نفوس أعضاء اللجنة المؤسسة للمدرسة. لكن سرعان ما تم تدارك الأمر وقامت اللجنة باستدعاء عمرو الوكوتي الذي كان آنذاك في قرية تاقربوصت يلقن القرآن ويؤم الناس ، واستمرت المدرسة في أداء مهمتها قرابة السنة حتى صدر قرار تعسفي بإغلاقها في سنة 1936 لتعيد فتح أبوابها سنة 1937 بحضور علال الفاسي حيث استمر فيها العمل حتى حدود 1946 مع ما تخللها من فقرات الإغلاق و المنع لتبدأ المرحلة الثانية من هذا العمل التعليمي .

2/ الحزب الوطني في المنطقة :

يمكن اعتبار سنة 1936 فتح للحركة الوطنية إذا اتسعت دائرة نشاطهما بعدما ظلت منحصرة في المدن الكبرى ، ولم تكن تقوم بنشاط منظم في الأقاليم الأخرى ، فلم تكن هناك من فروع لتأسيس الخلايا و الحلقات. فقط كانت توافيهم ببعض النشرات الوطنية من حين لآخر و كانت تدرس في دائرة محدودة ، ويبدو أن انتصار الجبهة في فرنسا في انتخابات ماي 1935 و عزل المقيم العام برتون كان سببا في زيادة تغلغل نشاط الحركة الوطنية و فتح فروع جديدة. غير أن هذا الانفراج لم يدم طويلا إذ بمجرد سقوط حكومة الجبهة الشعبية في منتصف 1937 قام الجنرال نوجيس بحل الكتلة و ألقى القبض على أغلب القادة .

وقد حاول علال الفاسي و الوزاني في سنة 1936 إعادة تنظيم الحزب غير أن نتيجة الانتخابات لم ترض بعض الأطراف بعد انتخاب علال الفاسي رئيسا و الوزاني أمينا إذ انسحب هذا الأخير ليشكل الحركة القومية في مقابل الحزب الوطني الذي أسسه علال وعمل على توسيع قاعدتها الشعبية بتكوين فروع في مختلف مدن الغرب .

وفي هذه الفترة ظهرت ورقات الانخراط في الحزبين بمدينة بركان غير أنها لم تكن تتجاوز بعض الانخراطات القليلة. ولم تزعمها بالمنطقة أحمد بن العربي الرمضاني أحد إذ كان زعيمها من غير أعضاء . في حين أن الحزب الوطني قد استقطب الأغلبية لأنه قد ارتكز على العقيدة الدينية والدعوة السلفية التي كانت تتلاءم مع عقلية اليزناسنيين .

ورغبة من القادة الوطنيين بالمنطقة في زيادة نشر الوعي بين الناس وإيجاد مركز للالتفاف حوله قرروا استشارة الزعماء في فاس بشأن تأسيس مكتب بأبركان. وفعلا سافر عمرو الوكوتي حيث اتصل بالوزاني و علال الفاسي قبل مدة قصيرة من اعتقالها. غير أن اضطراب الأحوال في فاس احتجاجا على الزعيمين علال و الوزاني أدى إلى اعتقال الوكوتي و محاكمته بستة أشهر سجنا و حين وصول خبر اعتقاله إلى المنطقة عم استياء عميق جميع الأوساط الوطنية في مدينة بركان و النواحي .

وحتى يقوم بتهدئة الأوضاع بالمنطقة عمد رئيس مراقبة أبركان  وهو كوستي الاشتراكي ، بعد استشارة مع القائد محمد المنصوري ، إلى "عملية تهدئة سلمية" حيث تم تحذير العناصر المسؤولة بلطف ولباقة –3-. غير أن ذلك لم يعمل على تهدئة الأوضاع خاصة وقد كانت فرنسا منشغلة بما يجري على الساحة في أوروبا من تحالفات و تحركات لألمانيا ، فواصل الوطنيون عملهم رغم تعسفات الإدارة و باشروا أعمالهم في سرية تامة خصوصا حين أعلن الجنرال نوجيس تطبيق الأحكام العرفية وتعطيل الحريات العامة وبدأت السجون والمعتقلات و المنافي تعج بالمعتقلين السياسيين . لتزداد حدة القمع مع اندلاع الحرب العالمية الثانية.